الجمعة، 14 أبريل 2017

تركيا: أزمات فى الداخل و الخارج

تركيا: أزمة منتصف الطريق

مقدمة
    تمر الجمهورية التركية بتحديات خطيرة على الصعيدين الداخلى و الخارجى، فالأزمة السورية ألقت بظلالها على جُل السياسة الخارجية التركية وأصبحت كلمة السر فى علاقة تركيا بأوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية. داخلياً، تشهد تركيا انقساماً حاداً على خلفية انفراد الرئيس رجب طيب أردوغان و حزبه- العدالة والتنمية  بالمشهد السياسى بصورة يعتبرها كثير من المراقبين تهدد شخصية الدولة العلمانية ومستقبلها الديمقراطى، بالإضافة لسجل تركيا فى مجالي حرية التعبير و حقوق الأنسان، خصوصاً بعد الإنقلاب الفاشل فى منتصف يوليو\ تموز الماضى.

العلمانية فى تركيا
    فى عام 1999، اُنتخبت "مروة قاوجى" من حزب الفضيلة كأول نائبة ترتدى الحجاب، إلا أن رئيس الوزراء و عدد كبير من النواب لم يسمحوا لها بأداء القسم داخل البرلمان وما لبثت ان سقطت عنها الجنسية بحجة حصولها على جنسية أخرى دون موافقة الجكومة ! (1)
أما اليوم  فى 2017  فقد اختلفت الصورة تماماً، فزوجة رئيس الجمهورية ترتدى الحجاب، و كذلك أيضاً زوجة كل من رئيس البرلمان و رئيس الوزراء، و يمتلئ البرلمان التركى بالنائبات اللاتى ترتدين الحجاب، ثم أخيراً قرر الجيش التركى رفع الحظر عن ارتداء الحجاب على النساء اللاتى يخدمن بصفوفه، و هو القرار الذى أثار مخاوف قطاعات واسعة داخل المجتمع التركى
فالجيش الذى يعد بمثابة" حارس العلمانية" فى الجمهورية التركية منذ عهد مؤسسها كمال أتاتورك عام 1923، يبدو اليوم فى أضعف حالاته، ويظهر عاجزاً أمام السلطات المدنية التى تسعى لترويضه و إخضاعه، وربما إذلاله. جدير بالذكر أن حكومة العدالة والتنمية كانت قد وافقت على رفع حظر ارتداء الحجاب فى الحرم الجامعى منذ عام 2010، وسمحت أيضاً باتداءه فى المؤسسات الحكومية بدءاً من عام 2013 (2) . ورغم كل تلك المؤشرات الخطيرة، لا يترك أردوغان فرصة إلا ويؤكد تمسك الدول بالمنهج العلمانى.
    يتبنى أردوغان المفهوم الاستيعابى أو المتسامح للعلمانية، كالنموذج الأمريكى (secularism) وليس المفهوم التركى المستمد من العلمانية الفرنسية الصارمة (laicite، فالدولة وفقاً لتصوره- تقف على مسافة واحدة من كافة الأديان ولا تتدخل لفرض قيود على الممارسات الدينية للمواطنين، فى حين اعتادت تركيا الأتاتوركية على إبعاد الدين تماماً عن الحياة العامة أُسوة بالنموذج الفرنسى، بل ربما تفوقت عليه فى ممارستها الحادة تجاه أي نشاط يحمل طابع دينى. ينبغى القول أن جانباً كبيراً من مخاوف الأتراك يكمن فى شخص الرئيس اروغان بالأساس، فربما لو جاءت تلك التغييرات من حزباً مثل حزب الشعب الجمهورى، أو أي شخص يتحلى بقدر أكبر من التسامح تجاه خصومه ويتبنى سياسة أكثر عقلانية واعتدالاً ،لاختلفت الصورة. فالإجراءات السلطوية التى اتخذها الرجل فى السنوات الأخيرة خصوصاً فيما يتعلق بحرية الرأي والإعلام، ثم احتكار حزبه للسلطة منذ عام 2003، ويبدو أنه فى طريقه للاستمرار عشر سنوات أخرى على الأقل بعد الأستفتاء الدستورى المزمع عقده فى أبريل\ نيسان القادم.
    إذن صار واضحاً أن هناك تركيا فى طور الولادة، هي تركيا " الأردوغانية" ، تتبنى مفهوماً آخر عن العلمانية "الأتاتوركية"، أكثر استيعاباً و تسامحاً مع الممارسات الدينية، كما تتجه حكومة العدالة و التنمية نحو بسط نفوذها و سيطرتها على الجيش و الشرطة والقضاء، أي مؤسسات الدولة العلمانية العتيدة، حيث قامت الحكومة التركية منذ فشل الانقلاب فى يوليو الماضى بعزل أكثر من 2745 قاضياً، واعتقال ما يقارب 7 آلاف عسكرياً،  و عزل 8777 شرطياً (3). كل هذه المتغيرات الحادة تعيد إلى الأذهان ما ذكره المفكر الأمريكى "صامويل هنتجتون" فى كتابه الأشهر " صدام الحضارات"، حيث توقع أن تشهد تركيا تغيرات جذرية فى شخصيتها على يد زعيماً تركياً بحجم أتاتورك يجمع بين الدين و الشرعية السياسية، ويبدو أن تلك الكلمات قد اطلع عليها أردوغان و صمم على تحقيقها !

الديمقراطية فى تركيا
    أعلنت منظمة " مراسلون بلا حدود" أن تركيا هى أكثر دول العالم احتجازاً للصحفيين فى عام 2016، حيث ارتفع عدد الصحفيين المسجونين فى تركيا بمقدار أربعة أضعاف بعد الأنقلاب الفاشل فى يوليو\ تموز الماضى (4) ، كما بلغ عدد الصحفيين المحتجزين فى العالم 259 صحفياً بينهم 81 صحفياً فى تركيا وحدها (5) . ليس هذا كل شئ، فقد قامت السلطات التركية بحجب وسائل التواصل الاجتماعى ست مرات فى آخر عامين وإغلاق ما يقارب 3000 مؤسسة إعلامية و صحفية، فيما وصل اجمالى الموقوفين و المفصولين عن اعمالهم بعد الانقلاب الفاشل إلى 43325 عسكرياً و موظفاً (6). 
    أرقاماً مفزعة، تليق بدولة من دولة العالم الثالث الغارق فى الظلام، وليس بدولة تسعى للإنضمام الى الأتحاد الأوربى، و هو ما استدعى انتقادات شديدة اللهجة من الأتحاد الأوربى معتبراً أن تركيا تتراجع عن الألتزام بشروط عضويته، و ذكر فى تقريره السنوىان تركيا شهدت انتكاسة كبيرة على صعيد حرية التعبير (7)
    التدهور الحاد فى مؤشرات الديمقراطية و الحريات فتح باب التساؤلات حول مستقبل الديمقراطية فى تركيا، حيث تستبد الأغلبية الإسلامية بالسلطة متخذة قرارات يراها الكثيرون لا تتفق مع مبادئ و روح الديمقراطية، و هو ما دفع المراقبون للتساؤل حول جدوى آليات الديمقراطية طالما أنها لا تحقق فلسفتها، بل ربما تصطدم معها ! لذلك يمكن القول أنه ليس من المتوقع حدوث أختراق فى مجال الحريات العامة فى ظل استمرار النهج الحالى لأروغان الذى يشدد قبضته على أنفاس الأتراك يوماً بعد يوماً، و تدفعه الأزمات الخارجية المتلاحقة و العزلة التى تحاصر تركيا الى مزيد من التشدد فى الداخل. كما يبدو أن الضغوط الخارجية عليه فى مجال حقوق الإنسان سوف تتراجع فى ظل ارتفاع اسهم النظم الشعبوية فى الغرب، فادارة ترامب لن تضغط فى مجال حقوق الانسان والحريات مثل ادارة اوباما، فيما تواصل الاحزاب الشعبوية تقدمها فى أوربا، دافعة الاتحاد الاوربى نحو مزيد من الانكفاء على الذات لمواجهة المشاكل المتفجرة و المتلاحقة داخله، بدءاً بخروج بريطانيا، ثم فوز اليمين المتطرف فى بولندا و المجر ، و تصاعد اسهمه فى فرنسا و ألمانيا.

السياسة الخارجية التركية 
    تبنت حكومة العدالة والتنمية ثورات الربيع و دعمت عملية الانتقال السياسى فى تونس و مصر واليمن ، وقدمت دعماً سياسياً و عسكرياً للجماعات المسلحة فى سوريا. رأت تركيا فى ثورات الشعوب العربية فرصة لتوسيع قاعدة نفوذها فى الشرق الأوسط و شجعت تدفق مستثمريها إلى تونس و مصر خصوصاً، وراهنت على الإسلاميين -بالأخص جماعة الإخوان المسلمين- باعتبارهم الحصان الأسود لتلك الثورات.
    الملاحظ هنا أن تركيا تخلت عن نهجها البراجماتى فى تدعيم نفوذها السياسى و فتح أسواقاً جديدة لأقتصادها الصاعد، وتبنت عركات وأحزاب سياسية  وعسكرية فى سوريا- يغلب عليها الطابع الاسلامى السنى، و هو ما يبدو اليوم فى 2017 أن تركيا قد خسرت رهانها فى كل الملاعب. خسرت تركيا علاقاتها مع مصر و سوريا و العراق ثم روسيا بعد إسقاط إحدى مقاتلاتها بحجة اختراق الأجواء التركية، ثم تأزم علاقاتها مع الأتحاد الأوربى على خلفية سجلها فى مجال الحريات العامة ، بالإضافة لشعور الاتحاد الأوربى بتعرضه لعملية ابتزاز من قبل تركيا فى ملف اللاجئين، ومع الولايات المتحدة لم تكن الصورة أفضل، فقد طالبتها إدارة الرئيس  السابق أوباما بفرض مزيد من الرقابة على حدودها مع سوريا، وهو تلميح و اتهام ضمنى بضلوع تركيا فى تسهيل دخول المقاتلين و الأرهابيين الى سوريا، كما أن سياسة اوباما الرامية الى الانسحاب أو عدم التدخل المباشر فى مستنقع الشرق الأوسط رأت فى تركيا عنصراً مشاركاً فى حرباً بالوكالة فى سوريا و غير جدير بالثقة، و مع إيران، خيم التوتر على العلاقات بين البلدين و اكتفى كلاهما بالحفاظ على العلاقات الأقتصادية القوية بين البلدين حيث تجاوز التبادل التجارى بينهما حاجز ال 40 مليار دولار (8)
    فى اللحظة التى سبقت الأنقلاب الفاشل فى منتصف يوليو\ تموز 2016، بدت تركيا فى وضع لا تُحسد عليه، دولة شبه معزولة سياسياً و تحظى سياستها بسمعه غير طيبة بسبب لهجة و سياسة رئيسها الشعبوية. كان فشل الانقلاب بمثابة فرصة ذهبية لأردوغان أعادت للأذهان ان حكومة العدالة و التنمية تظل حكومة ديمقراطية منتخبة من الشعب، لكن الرجل تعامل مع الوضع بصورة مختلفة، فبدلاً من استغلال الإدانات الدولية لترميم علاقات تركيا الخارجية، اطلق الرجل يديه على مفاصل الدولة و أطاح بأكثر من 40 ألف عسكرياً و قاضياً و مدنياً من وظائفهم، و هي إجراءات لم تتخذها نُظماً توصف اليوم بأنها ديكتاتورية، كما توعد بإعادة العمل بعقوبة الإعدام فى خطوة تعتبر بمثابة رصاصة الرحمة على محاولات الأنضمام للاتحاد الأوربى (9) ، وعلى الحريات فى تركيا بشكل عام.
    كل هذه الإجراءات عمقت الفجوة بين تركيا من ناحية ، و الأتحاد الأوربى و الولايات المتحدة من جهة أخرى، وأصبحت العلاقات التركية الروسية شيئاً فشيئاً أكثر تقارباً، حيث أعتبر أردوغان أن روسيا بادرت بإدانة الأنقلاب سريعاً فى حين تأخرت ردود الأفعال الأوربية و الأمريكية. لكن تركيا فى تلك اللحظة أدركت أنها بحاجة الى ترتيب بيتها من الداخل و أن الأنخراط فى الشأن السورى لم يعد مجدياً، فتخلت عن فكرة الإطاحة بالأسد و تراجعت عن دعمها المطلق للفصائل المسلحة فى مقابل دعم الحرب على الأكراد وهو مثابة انقلاب كامل فى السياسة التركية تجاه سوريا (10).
    الخلاصة، تتجه تركيا نحو مزيد من التقارب مع روسيا و مزيد من التأزم مع الاتحاد الأوربى، فيما ينتظر الجميع استجلاء السياسة الخارجية لإدارة ترامب. لكن من المتوقع أن تصبح سياسة أردوغان أكثر براجماتية خصوصاً فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط بعد استفتاء تعديل الدستور فى أبريل\نيسان القادم و استقرار المناخ السياسى الداخلى ربما ينعكس على صانع السياسة الخارجية التركية.

الهوامش و المراجع
(1)كورو،أحمد .العلمانية و سياسة الدولة تجاه الدين الولايات المتحدة، فرنسا، تركيا  ص 296

(2) http://www.bbc.com/arabic/world-39054038 بى بى سى، السماح لنساء الجيش التركى بارتداء الحجاب، 22 فبراير 2017

(3) https://arabic.rt.com/news/832720-%D8%A7%D9%86%D9%82%D9%84%D8%A7%D8%A8-%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B4%D9%84-%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B9-%D8%B9%D8%AF%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%AA%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%AA%D8%B7%D8%A7%D9%84-%D9%82%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A9-%D9%88%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%A8-%D8%B9%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%86/
روسيا اليوم، حملة اعتقالات فى تركيا، 18 يوليو 2016
(5) المصدر السابق

(6) http://www.dostor.org/996263  جريدة الدستور، قمع الاعلام فى تركيا، 5 مارس 2016

الجزيرة نت ، الاتحاد الأوربى: تركيا تتراجع عن التزامات العضوية، تم الاطلاع بتاريخ 5 مارس 2017

(8)سعيد، كرم - التقاطع التركى الإيرانى فى العراق،مجلة السياسة الدولية ،العدد 207 ص 140

(10)أوغلو،محمد  مجلة المستقبل العربى، العدد 456 

-هنتنجتون، صامويل ـ  صدام الحضارات ـ مكتبة الأسرة 2014
-كورو، أحمد  العلمانية و سياسة الدولة تجاه الدين فى الولايات المتحدة ، فرنسا ، تركيا  الشبكة العربية للأبحاث و النشر، الطبعة الأولى بيروت 2012
-جون بيندر و سايمون أشروود ، مقدمة قصيرة جداً عن الاتحاد الأوربى  مؤسسة هنداوى، الطبعة الأولى 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق